«ذراع أبو النجا».. كنوز الدولة الحديثة تنبض في قلب طيبة المصرية

على الضفة الغربية من نهر النيل بمدينة الأقصر، تقف منطقة ذراع أبو النجا شاهدة على عبق التاريخ المصري القديم، حيث تُعد هذه المنطقة من أهم المقابر الجنائزية في البر الغربي لطيبة، والتي احتضنت عبر العصور رفات كبار الكهنة والمسؤولين والنبلاء.
وفي اكتشاف أثري جديد، كشفت البعثة الأثرية المصرية العاملة بالموقع عن ثلاث مقابر تعود لعصر الدولة الحديثة، لتضيف فصلاً جديدًا إلى صفحات المجد التي سطرها أجدادنا، وتؤكد على استمرار تفوق الكوادر الأثرية المصرية في قراءة أسرار الحضارة التي ما زالت تدهش العالم حتى اليوم.
فكيف تسهم هذه الاكتشافات في تعزيز مكانة مصر على خريطة السياحة الثقافية؟ وما الذي تحمله هذه المقابر من أسرار وشواهد حضارية؟ هذا ما نستعرضه في التقرير التالي…
بوابة خفية لأسرار طيبة القديمة
تقع منطقة ذراع أبو النجا شمالي الضفة الغربية لمدينة الأقصر، على مقربة من وادي الملوك والدير البحري، وتُعد امتدادًا طبيعيًا لسلسلة المقابر النبيلة التي تعود لعصر الدولة الحديثة (الأسرتان 18 و19). وقد اشتهرت المنطقة منذ القرن التاسع عشر كموقع أثري هام، وتوالت عليها البعثات المصرية والدولية لاكتشاف أسرارها، لما تتميز به من تخطيط معماري معقد ونقوش دقيقة تحكي تفاصيل حياة أصحابها في الدنيا والآخرة.
نجحت البعثة الأثرية المصرية التابعة للمجلس الأعلى للآثار، خلال موسم حفائرها الحالي، في الكشف عن ثلاث مقابر جديدة، تعود جميعها لعصر الدولة الحديثة، وتحديدًا لعصر الرعامسة والأسرة الثامنة عشر. وقد عُثر على هذه المقابر من خلال أعمال المسح والتنقيب اليدوي الدقيق في أحد القطاعات غير المكتشفة بالكامل داخل ذراع أبو النجا، وهو ما يُعد إنجازًا علميًا وأثريًا مصريًا خالصًا.
تعزيز مكانة مصر الثقافية
أشاد الدكتور شريف فتحي، وزير السياحة والآثار، بهذا الكشف، مؤكدًا أنه يضيف إلى سجل الإنجازات التي تحققت بأيدٍ مصرية خالصة، ويعكس المهارات العالية للكوادر الأثرية الوطنية. وأضاف أن هذه المقابر المكتشفة ستُسهم بشكل فعّال في تنشيط السياحة الثقافية، لا سيما لمحبي الحضارة المصرية القديمة، لما تحمله من قيمة تاريخية وروحانية فريدة.
قصص رجال من زمن المجد
وفقًا لتصريحات الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، فإن المقابر الثلاثة تعود لشخصيات بارزة في الدولة الحديثة:
المقبرة الأولى تخص “آمون-إم-إبت”، وكان يشغل وظيفة في معبد أو ضيعة آمون خلال العصر الرعامسي.
المقبرة الثانية تعود إلى “باكي”، وكان يعمل مشرفًا على صومعة الغلال في طيبة.
أما المقبرة الثالثة، فهي لصاحب يُدعى “إس”، وكان يتقلد مناصب متعددة، منها: مشرف على معبد آمون في الواحات، وعمدة الواحات الشمالية، وكاتب.
رموز الجنائز والبعث في طيبة
أوضح الدكتور عبد الغفار وجدي، مدير عام آثار الأقصر ورئيس البعثة، أن المقابر المكتشفة تتميز بتصميم معماري فريد يعكس التطور الذي بلغته طقوس الدفن في عصر الدولة الحديثة:
مقبرة “آمون-إم-إبت”: تبدأ بفناء صغير يليه مدخل يؤدي إلى صالة مربعة تنتهي بنيشة، تعرض جدارها الغربي للتكسير نتيجة إعادة استخدام المقبرة لاحقًا. تظهر على جدرانها مناظر تقديم القرابين والولائم الجنائزية.
اقرأ أيضا| كشف أثري جديد بمنطقة الأغاخان في أسوان| صور
مقبرة “باكي”: تتكون من فناء طويل على هيئة ممر، يؤدي إلى فناء آخر ومدخل رئيسي، ثم صالة مستعرضة وأخرى طولية تنتهي بمقصورة غير مكتملة تحتوي على بئر للدفن، وهو أسلوب شائع في الأسرة الثامنة عشر.
مقبرة “إس”: تحتوي على فناء صغير فيه بئر، يليها المدخل ثم صالة مستعرضة تؤدي إلى صالة طولية غير مكتملة، ما قد يشير إلى توقف أعمال البناء نتيجة ظروف مفاجئة أو وفاة مبكرة لصاحبها.
ملامح بصرية لحياة ما بعد الموت
تشير الشواهد الباقية في المقابر، خاصة في مقبرة “آمون-إم-إبت”، إلى أن العديد من المناظر الجنائزية قد تعرضت للتدمير بفعل الزمن أو استخدامات لاحقة. إلا أن النقوش المتبقية تكشف عن تفاصيل دقيقة للحياة الدينية والجنائزية في طيبة، من بينها طقوس تقديم القرابين، وحمل الأثاث الجنائزي، وولائم الاحتفال بالبعث.
7- أهمية الاكتشاف من الناحية العلمية
تكمن أهمية هذا الكشف في الآتي:
توسيع قاعدة البيانات المعرفية حول طبقات المجتمع في الدولة الحديثة، وخاصة فئة المسؤولين الإداريين والدينيين.
فهم تطور فنون المقابر والنقوش، وخاصة في الفترة الانتقالية بين الأسرة الثامنة عشر وعصر الرعامسة.
دراسة مراحل إعادة استخدام المقابر في عصور لاحقة، والتي تُعد من الظواهر المتكررة في جبانة طيبة.
8- دور الاكتشاف في تنشيط السياحة الثقافية تمثل منطقة ذراع أبو النجا أحد أبرز المقاصد التي يمكن دمجها ضمن مسار الزيارة للبر الغربي بالأقصر، إلى جانب وادي الملوك والدير البحري ومعبد الرمسيوم. ومن المتوقع أن تسهم هذه الاكتشافات الجديدة في زيادة إقبال السائحين، لا سيما من المهتمين بالحضارة المصرية القديمة، الذين يحرصون على مشاهدة المواقع غير التقليدية ذات الطابع الأصيل.
9- جهود التوثيق والنشر العلمي
أكدت البعثة أن أعمال التوثيق والتصوير والنشر العلمي لهذه المقابر ستتم وفقًا للمعايير الدولية، حيث يجري حاليًا تنظيف النقوش بعناية، وتجميع الكسرات الحجرية، ورسم المخططات المعمارية للمقابر. كما ستُنشر نتائج الحفائر في مجلات متخصصة، وهو ما يعزز من الصدى الدولي للاكتشاف.
مستقبل واعد للاكتشافات
تُعد هذه المقابر المكتشفة حديثًا جزءًا صغيرًا من شبكة ضخمة من المقابر التي لم يُكشف عنها بعد في ذراع أبو النجا، ما يمنح الأمل في مواصلة الاكتشافات النوعية خلال المواسم المقبلة. كما أن ثراء المنطقة بالنقوش والمخطوطات واللقى الجنائزية يجعلها منجمًا مفتوحًا للباحثين والدارسين في علوم الآثار.مرة أخرى، تثبت مصر للعالم أن أرضها لا تزال مليئة بالكنوز التي تنتظر من يُزيح عنها تراب القرون. فالكشف الجديد في ذراع أبو النجا ليس مجرد اكتشاف أثري، بل هو رسالة حضارية تؤكد على استمرار التواصل بين الماضي والحاضر، وعلى قدرة المصريين على الحفاظ على تراثهم واستثماره في دعم الاقتصاد الوطني والسياحة الثقافية. إنها قصة متجددة من المجد، ترويها جدران مقابر الصامتين بلغة لا يفهمها إلا العاشقون لآثار طيبة الخالدة.