“الذاكرة الشعبية”.. موسوعة سعودية تُعيد رسم ملامح الإنسان والمكان

كشف المؤرخ والباحث الاجتماعي المهتم برصد تحولات المجتمع وتوثيق تاريخ الجزيرة العربية الدكتور عبدالرحمن الشقير عن إطلاق مشروعه المعرفي الأبرز “الذاكرة الشعبية”، والذي يمثل موسوعة ثقافية عن مرحلة تاريخية تطلبَّت منه توظيف ملاحظاته والرواية الشفهية للوصول إلى موضوعات يندر الكتابة عنها.
الدكتور عبدالرحمن الشقير
وقد طرقت الذاكرة الشعبية أبواب العادات والتقاليد والقيم والعمارة والذكريات، لتحفر عميقًا في وجدان المجتمع السعودي، وتعيد تشكيل صورة الإنسان والمكان كما عاشها الناس بتفاصيل تكاد تندثر.
وأوضح أن الذاكرة الشعبية السعودية هي ذاكرة تفاعلية، تؤثر في غيرها وتتأثر بغيرها منذ آلاف السنين، لأنها نشأت في فضاء مفتوح على طرق التجارة والحج والموانئ المنتشرة في الخليج والبحر الأحمر، فكل سلعة دخلت البلاد جلبت معها عادات وسلوكيات، تم تكييفها محليًا حتى أصبحت جزءًا من الذاكرة الجماعية، كالأفكار والموسيقى والأزياء والأطعمة وأسلوب الحياة لكل جيل.
مشروع وطني
وفي التفاصيل حول المشروع، يقول لـ”العربية.نت”: بدأت الرحلة بسؤال بسيط لكنه معقد: ماذا يتذكر الناس من حياة أسلافهم وماذا فعلت العولمة في تذويب ذاكرتنا الشعبية؟ وسرعان ما تحوّل البحث عن إجابة لهذا السؤال إلى مشروع وطني كبير، لأن الذاكرة الشعبية يُنظر إليها في مراكز الأمن والسلام والدراسات الاستراتيجية باعتبارها من أركان الدولة التي ينبغي حمايتها وجعلها جزءًا من الحدود الثقافية والتراثية كالحدود الجغرافية، بسبب تغول العولمة والعصر الرقمي في إنتاج أجيال بهويات معولمة لا ينتمي كثير من أسلوب حياتها إلى مجتمعاتها ولا جذورها المحلية.
وأضاف: المشروع له بُعد في الأمن المجتمعي، وبذرة في مواجهة تعويم التراث غير المادي، وشعرت أن المشروع يستحق أن يكون موسوعة متكاملة حين أدركت أن ما نملكه من تراث غير مادي يجسد بنية ثقافية تحمل معنى المجتمع ونظرته للعالم.
فقدان متسارع للذاكرة
واصل “الشقير” حديثه: بدأت ألاحظ أن هناك فقدانًا متسارعًا للذاكرة الشعبية، من هنا، جاءت الموسوعة كمشروع فكري يقرأ الرموز والعادات بوصفها مفاتيح لفهم الذات، ويقرب الهوية الثقافية للأجيال الجديدة بأسلوب ثقافي بسيط، ويخفف من حدة الانفصال عن الأجيال السابقة.
وتضمنت الموسوعة أبرز ثلاثة معايير لاختيار موضوعات الذاكرة الشعبية أن تكون ظاهرة متخفية داخل الممارسات اليومية، ولم يُسبق الكتابة عنها، مثل “صدر المجلس” و”تأثير الغبار على المزاج العام” و”التاريخ الاجتماعي للصوت” و”الغزل في القرية”، إضافة إلى تقنية الإضاءة والفندقة والأثاث المنزلي وسيميائية الغرفة والباب قبل عصر النفط وأن يكون مكتوبًا عنه من زاوية تراثية، ويُكتب عنه من زاوية الديناميكية التي تحركه كالطبقة الاجتماعية أو زوايا جديدة، مثل “المقناص” و”المكشات” و”القهوة” و”الحلوى” و البحث في الجذور التاريخية العميقة جدًا للفن الشعبي والفلكلور، مثل رقصة “اللوفحة” التي تعود جذورها للرقص لإله الخصب والمطر في معابد الحضارة السومرية، ثم خرجت من المعبد وبقيت ممارساتها الفنية حتى الآن. ومثل فن “السامري” الذي تعود حركة الكتف واليدين فيه ذهابًا وإيابًا إلى محاكاة سلوك الصيادين إذا رموا الشباك في البحر ثم سحبوها محملة بالسمك.
روايات متضاربة
وحول التعامل مع تضارب الروايات واختلاف الذاكرة من منطقة لأخرى، يذكر الشقير أن الرواية الشفهية متغيرة وغير ثابتة، لأنها تمر عبر الزمن والناس؛ لذلك كان يركز على تحليل “البنية”، أي العناصر الثابتة والمشتركة بين الروايات، مثل الشخصيات الأساسية أو الحدث المحوري، بدل التركيز على التفاصيل المتغيرة.
وفي بعض الأحيان، احتفظ بتعدد الروايات وتضاربها لأنه يعكس غنى الذاكرة الشعبية وتنوع الرؤية، واعتبره مصدر قوة.
ولفهم هذا أكثر، يكفينا أن ننظر إلى الأمثال الشعبية، فهي تقول الشيء ونقيضه، ويستخدمها الناس بحسب ما يناسب موقفهم، ما يُظهر أن المجتمع لا يرى الأمور دائمًا من زاوية واحدة، بل هناك ديناميكية وتعدد في وجهات النظر، وهو ما حاول أن ينقله بصدق في عمله مع الرواية الشفهية.
المنهج البحثي
يوضح الشقير المنهج البحثي الذي اعتمد عليه في رصد وتحليل الذاكرة الشعبية، بقوله: اتبعت المنهج التكاملي والمنهج النقدي. فهذه المناهج لا تفصل بين الحقول المعرفية، وترى أن الفهم العميق لأي ظاهرة يتطلب الجمع بين العلوم بوصفها أدوات تضيء جوانب مختلفة من الظاهرة الواحدة.
وأضاف: تعاملت كثيرًا مع المنهج الأركيولوجي المعرفي، وفق استخدامات ميشيل فوكو له، فهذا المنهج يهتم بكشف الشروط المعرفية الأولى التي سمحت للظاهرة أن تنشأ وتستقر في المجتمع، فجميع الظواهر والعادات لها بنية ثقافية جعلت المجتمع يتقبلها ويدمجها في حياته اليومية.
من أشرطة الكاسيت إلى الأطعمة المندثرة
وأبان: كانت المقابلات الشفهية هي النسيج الحي للموسوعة التي أضافت صوت الناس، ولهجتهم، وطريقتهم في قول الأشياء. لكن ما لم تقله الروايات كنت أفتش عنه في الأمثال والأشعار والأساطير الشعبية.
ويوضح أن بعض العادات اندثرت تمامًا قبل أن تُسجّل، وقد جرب الكتابة عن “أطعمتنا المندثرة”، ووجد فعلًا صعوبة في معرفة الناس بمسمياتها وطرق طهيها والمناسبات التي تُقدَّم فيها.
فإذا كان العالم كشف أن كثيرًا من جيل الألفين، وهو الجيل الذي وُلد في عصر رقمي سريع التغير وقصير الذاكرة، لم يتعرف على أشرطة الكاسيت مثلًا، فما بالك بمئات الظواهر التي تمتد إلى قرن من الزمان.